في عام 2004 ، صدرت رواية " البصيرة " ،ل جوزيه ساراماجو ، أي بعد حصوله علي نوبل بست سنوات ، وترجمها الي العربية أحمد عبد اللطيف الذي راي "أن النضج في هذه الرواية قد بلغ مداه ، بداية من فكرة الرواية ، وحبكتها ، وسردها الجديد ، ومرورا بتطور أحداثها ، وليس نهاية بوصف مكانها والحوار المناسب لكل شخصياتها ، وإطلالة المؤلف علينا من حين لآخر ليعلق علي حدث ، أو لينقد سلوكا ، وإتباعه أحيانا إسلوب السرد الشفهي ، وتعمده في كسر الإيهام ، ليذكّر القاريء دائما أنه هو الراوي لكل الأحداث ، بل وتحاوره معه" ، كمعظم ملامح روايات ساراماجو ، وان تميز هذا العمل بالعبث الذي خلق من الممكن صعب المنال حقيقة ، فيمتزج الواقع مع الخيال ، والخيال مع الواقع ، ويقنعك به في تطور مدهش للأحداث ، وفي النهاية تختم الرواية بشكل غير متوقع .
حاولت الرواية الإجابة عن السؤال التالي : ماذا سيحدث لو قام أكثر من 80% من سكان مدينة ما بالإدلاء بأصوات بيضاء ؟ ، أصوات بيضاء ، وليست اصوات ملغية ، ولا إمتناع عن الإنتخابات ، بل ذهبوا إلي اللجان الإنتخابية ، بأصوات صالحة ، لكنهم لم ينتخبوا أيا من الأحزاب الثلاثة : اليمين ، اليسار ، الوسط . لقد قرر كل ناخب ، من تلقاء نفسه ، منفردا ، بدون أن يتفق مع أحد ، او حتي الانضمام لحزب او تنظيم سياسي ، أن يدلي بصوت أبيض . هذه هي نقطة البداية ، بعدها يأتي ساراماغو ليسرد ويصف ، ويبدأ العبث .
في " البصيرة " يجلس الكاتب العالم بكل شيء ، الملم بتفاصيل الأحداث و الشخصيات ، واضعا يده اليمني فوق خده كعادته ، مبتسما إبتسامته الساخرة ، بملامح وجهه البريئة ، ليروي ، ويروي ويروي ، إكذوبات الديمقراطية ، هو لا يهدمها ، ولا يرفض المجتمع الديمقراطي الغربي ، بل يعيد كشفه ، يعيد إصلاحه وتجديده ، يكشف عيوبه ، يظهر اليد الحديدية المغطاة بالقطيفة ، كما يقول هو نفسه في إحدي لقاءاته ، فبدلا من أن تبحث الحكومة عن المرض ، تعالج المرض ، فتلجأ للعنف و القمع و الحصار و التعذيب والتجويع ، فكل شيء مباح من أجل الحفاظ علي كرسي السلطة . ولأن الكاتب لا يعيش في برج عاجي ، ولأنه شديد الإطلاع ، قرر أن تجري احداث روايته في مدينة ما ، هي عاصمة لدولة ما ، بدون أن يذكر إسمها ، فتلك الأحداث قد تقع في أي مكان في الأرض .
ظل سكان العاصمة في بيوتهم يوم الإنتخابات ، خرجوا فقط في الساعة الأخيرة حيث اكتظت الصفوف ، ليثبتوا لحكومتهم انهم لم يمتنعوا بسبب الامطار الغزيرة ، وانما لانهم يرفضون المرشحين جميعا ، فما كان من الحكومة إلا ان ظنت أن هناك رأسا محرضا علي الإنقلاب ، منظمة فوضية تبغي القضاء علي سلطتها ، فقرروا ، بكل عبثية ، اللجوء للوسائل المعروفة من اجهزة كشف الكذب و التعذيب . وهنا يظهر المؤلف العبثي الساخر من جديد ، عندما تصر امرأة علي أن يجلس الضابط علي نفس الجهاز ليرد علي نفس السؤال : هل أدليت بصوت أبيض ؟ فتكون إجابة الضابط بالإيجاب.
تتابع الاحداث و تقرر حكومة هذا البلد أن تفرض الحصار علي العاصمة ، وإنشاء عاصمة جديدة ، علي أن تبقي العاصمة القديمة معاقبة بالجوع في إنتظار التموين الذي تبعثه لهم الحكومة الميمونة . وخلال هذه الأحداث ، تظهر صورة رئيس الجمهورية ، ورئيس الحكومة وكامل هيئتها ، فتظهر عبقرية المؤلف في وضع الحوار المناسب لكل شخصية ، بشكل يحسد عليه ، وبناء علي الخلفية المزود بها كل منا عن شاغلي تلك المناصب . وليكتمل العبث ، قررت الحكومة " تلبيس " التهمة لشخص ما، هنا يستدعي ساراماجو بطلة روايته السابقة "العمي"التي تظهر كخلفية لرواية البصيرة. .
وبعد سرد أكثر من نصف الرواية ، يظهر البطل ! ، البطل هنا هو مأمور مباحث كلفه وزير الداخلية بالتحقيق و العثور علي ادلة لإدانتة بطلة الرواية السابقة "العمي" ، لكن البطل يتعاطف مع " المتهمة " حيث لا يجد سوي ادلة براءتها ، فيصمم علي الوقوف معها مهما كلفه الأمر ، فيدفع حياته ثمنا لموقفه . جدير بالذكر أن المأمور ينتمي لحزب اليمين ، الحزب الحاكم ، رغم أن ساراماغو نفسه يساري ، إلا ان ذلك لم يؤثر عليه ، فما كان يهمه سوي التطور المنطقي للرواية ، كما أنه ايضا لا يقدس حزب اليسار المنتمي له . وبرغم أن الرواية مليئة بالعبارات المحملة بمعني الرواية ، إلا ان أهم عبارة تأتي علي لسان المامور : " من وقع هذا الميثاق نيابة عني ".
بدأ الكاتب روايته بالإستشهاد التالي : " قال الكلب : علينا أن نعوي " . وهو إستشهاد ذكي يناسب جو الرواية الذي يحث علي الثورة ضد كل ظلم .
وختم الرواية علي لسان رجل أعمي بعد أن قُتل الكلب الذي كان يعوي : "الحمد لله ، فأنا أبغض عواء الكلاب ". وهي إشارة إلي أنه لا أحد يكره صوت الثورة ، سوي العميان .
اما عنوان الرواية فهو مأخوذ من فكرتها ، هؤلاء القوم الذين إستنارت بصيرتهم فجأة ، وبلا رصاصة واحدة ، أعلنوا غضبهم
بكتابة هذه الرواية إرتاح ضمير ساراماغو ، حيث قال في احدي لقاءاته بجريدة الباييس الإسبانية عقب نشرها " لو جاءني الموت الآن ، سأموت وأنا مرتاح الضمير ، فقد كتبت ما أردت " . وقبل نشر " البصيرة " بعدة شهور في البرتغال و اسبانيا و امريكا اللاتينية قال الكاتب : أعلم أن هذه الرواية ستسبب لي الكثير من المشاكل ، كما حدث مع روايتي " إنجيل المسيح " . وعقب نشرها قال ميجيل فيجيا ، أحد أبرز أعضاء الحزب اليساري اليمقراطي البرتغالي ، وهو الحزب الذي ينتمي له ساراماغو ، " لقد أصعقتني هذه الرواية " . وبرغم ان علاقته تحسنت مع البرتغال بعد سنوات من " انجيل المسيح " ، إلا أن ساراماغو عاد مرة أخري ليلقي حجرا في المياه الراكدة ، لكن المياه هذه المرة سياسية ، وليست دينية .
وأخيرا ، فإن الإنتخابات البيروانية التي جرت عقب نشر هذه الرواية ، ساد فيها " الصوت الأبيض " . وظهر في فرنسا حزب ينادي بالصوت الأبيض . ولم تسلم إسبانيا من العدوي ، ففي 2004 أدلي 600 ناخبا بصوت ابيض . هؤلاء هم الكتاب الذين يغيرون العالم .
ملحوظة: معظم المقتطفات السابقة "كتابة نقدية للرواية علي اكثر من منتدي الكتروني "
4 comments:
نفسي اقرا هذه الرواية
احب جدا التاريخ و رواياته و السياسه و ما يتعلق بها من اعمال ادبيه
....................
كل عام انتم بخير
تحياتي
لنك الرواية موجود في البوست ممكن تحملها عندك لو تحب تقرا باقي مؤلفاته في الجروب اسمه books online
ع الفيس بوك هبعتلك منه مؤلفاته علي مراحل
اشطة؟
وانت طيب
عاوزة أشكرك على لينك الرواية :)
ميرسي للغاية :)
العفو يا فندم احنا ف الخدمة
Post a Comment